تلخيص ممتاز لمادة علم الإجرام ( الجزء الخامس )
"أساليب البحث في علم الإجرام "
بسم الله الرحمان الرحيم
في إطار ملخص علم الإجرام تطرقنا في المواضيع السابقة الى الأجزاء الأولى من علم الإجرام على الشكل التالي:
* ( الجزء الأول) تعريف علم الإجرام
* ( الجزء الثاني ) "مفهوم الجريمة و المجرم "
* (الجزء الثالث ) "الطبيعة العلمية لعلم الإجرام وعلاقته بالعلوم الجنائية: "
* ( الجزء الرابع ) "علاقة علم الإجرام بالعلوم الجنائية "
تذكير : يمكنكم تحميل كامل الأجزاء على شكل كتاب PDF من أسفل كل موضوع
الفصل الثاني: أساليب البحث في علم الإجرام
الفرع الأول: أساليب دراسة الجريمة في بعدها الجماعي:
المبحث الأول: الأسلوب الإحصائي
يعتبر أسلوب البحث الإحصائي من أهم طرق البحث العلمية المتبعة في دراسة الجريمة ، وهذا ما يفسر كون الأسلوب الإحصائي كان أول أسلوب علمي أستخدم لدراسة الظاهرة الإجرامية ، وهذا يعني بصيغة أخرى القيام بعملية حسابية داخل بقعة جغرافية محددة وخلال فترة زمنية معينة لمجمل الأفعال التي تشكل انتهاكات لنصوص القانون الجنائي، إضافة إلى أحكام الإدانة، وعدد الأشخاص المسجونين. ويمكن الأسلوب الإحصائي من تتبع وملاحظة مجمل تغيرات الظاهرة الإجرامية بالزيادة أو النقصان، ومدى إرتباط هذه التغيرات بالعوامل الفردية كالجنس أو السن التكوين العضوي والنفسي والعوامل البيئية كطبيعة المناخ وعامل الانتماء إلى سلالة معينة، والعوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، وقد ظهرت هذه الإحصائيات الجنائية بفرنسا لأول مرة سنة 1826 ،وأول من قام بذلك هو Guerry والبلجيكي Quetelet ثم تلته بعد ذلك بقية البلدان الأخرى.
ملاحظة: يمكن اعتبار من وجهة نظر تاريخية صرفة بأن أول من قام بذلك هو الإنجليزي howard jhon في كتابه "وضعية السجون في بريطانيا وبلاد الغال" سنة 1777 ، وكما قال الأستاذ محمد أحذاف :"خطأ شائع أفضل من صواب مهجور" لذلك يعتبر عام 1826 هو عام والدة الإحصائيات الجنائية، ووفقا للأسلوب الإحصائي فإن دراسة الظاهرة الإجرامية تتم عبر أسلوبين: *
الأسلوب الديناميكي المتحرك: هو أسلوب يقوم الباحث في نطاقه بدراسة الجريمة على الصعيد الكمي والنوعي في أوقات مختلفة، ولكن في بقعة جغرافية واحدة، ثم القيام بعملية مقارنة تغير الظروف في هذه البقعة الجغرافية كالعلاقة بين الظاهرة الإجرامية في مجملها، وبين مختلف التقلبات السياسية، الاقتصادية، والمناخية...
*أما الإحصاء الإستاتيكي الثابت: فإنه الأسلوب الذي يقوم في إطاره الباحث بدراسة الجريمة على الصعيد الكمي والنوعي تماما على غرار الأسلوب الأول، لكن وجه الاختلاف يكمن في أن الدراسة على صعيد هذا المستوى تتم في فترة زمنية معينة وفي عدة دول مختلفة أو عدة جهات داخل الدولة الواحدة، ثم القيام بمقارنتها لاحقا بمجمل الظروف المختلفة التي كانت سائدة خلال تلك الفترة الزمنية، لمعرفة علاقة الظاهرة الإجرامية وعامل البطالة أو سوء الأوضاع الاقتصادية عموما...
المطلب الأول: طبيعة الإحصائيات الجنائية ومصادرها:
يتم عادة تصنيف الإحصائيات الجنائية إما تبعا لمصدرها وإما بحسب طبيعتها.
أولا: التصنيف تبعا لطبيعتها: تنقسم الإحصائيات الجنائية تبعا لطبيعتها إلى إحصائيات إجمالية وأخرى نوعية: *الإحصائيات الإجمالية: ويقصد بها تلك المعطيات التي تظهر النشاط العام للإجرام وذلك في إطار مجموعة السكان الذين يعيشون في بلد ما، مثل مقارنة الإحصائيات الجنائية بالمغرب مع الإحصائيات الجنائية للسنغال، أو على الصعيد الوطني بين مدينتين وتمكن هذه الإحصائيات من فهم الظاهرة الإجرامية في شموليتها.
*الإحصائيات النوعية: فهي لا تعتبر في جوهرها عن مجمل الظاهرة الإجرامية، فإن ذلك لا يعني الانتقاص من قيمتها العلمية.
فإنها تعطينا نظرة دقيقة عن فئة معينة من المجرمين، (الأحداث، النساء، الياقات البيضاء)، أو نوع معين من الجرائم، (النصب، القتل، الفساد..) وهي بذلك يمكن أن تؤكد مدى صحة أو خطأ الإحصائيات الجنائية الإجمالية وذلك من خلال درجة التقائها أو بعدها عن نتائج هذه الأخيرة.
ثانيا: التصنيف بحسب المصدر:
1-الإحصائيات الرسمية والإحصائيات الخاصة:
إن أساس التميز بين الإحصائيات الرسمية والإحصائيات الخاصة يستند على طبيعة الجهة التي تقوم بإعداد وإصدار الإحصائيات الجنائية.
تعد إحصائيات رسمية أو عامة تلك الإحصائيات التي يتم إصدارها من طرف أجهزة ومؤسسات رسمية، كمؤسسات الدولة أو معاهد متخصصة... إلخ في حين أن الإحصائيات الخاصة أو العلمية فهي تلك الإحصائيات التي يتولى الباحثون أنفسهم عملية إعدادها. والملاحظ أن أغلب الإحصائيات الجنائية في بلدان العالم الثالث هي إحصائيات رسمية.
2-الإحصائيات الوطنية والإحصائيات الدولية: إن المعيار الذي بموجبه يتم التصنيف بين الإحصاء الوطني والدولي، يكمن بالأساس في استناده على المجال الجغرافي للإجرام الذي يتم تعداد. فالإحصائيات الجنائية الوطنية هي التي يتم إنجازها في إطار دولة واحدة. في حين أن الإحصائيات الدولية هي التي تتضمن في نفس وثيقة الإحصاء تعداد الجريمة داخل مجموعة من الدول، وبالتالي فالإحصائيات الوطنية(1826)أقدم بكثير من الإحصائيات الدولية، والتي تعتبر أكثر حداثة( 1952)
3- إحصائيات الشرطة، القضاء والمؤسسات العقابية: بكل تأكيد يعتبر هذا النوع من الإحصائيات الجنائية من أهم الإحصائيات الجنائية على الإطلاق، ومعيار التمييز بين الإحصائيات وغيرها. يستند بالأساس على طبيعة المؤسسة الإدارية التي تقوم بذلك.
أ-الإحصائيات البوليسية: هي التي تتولى أجهزة الشرطة القضائية بمفهومها العام،( الشرطة البيئية ،الشرطة السياحية...)،إعدادها، وهي تشمل بناءا عليه معطيات حسابية لأعداد الجريمة التي تصل إلى علمها أو التي تقوم بملاحقتها أو التحقيق فيها ونوع هذه الجرائم، وعدد الأشخاص المحالين أمام التحقيق بعد القبض عليهم من طرف أجهزتها. وتعتبر إحصائيات الشرطة من زاوية تقدير حجم الإجرام أدق من باقي أنواع الإحصائيات الأخرى أخدا بعين الاعتبار قيام النيابة بحفظ عدد لا يستهان به من القضايا وعدم متابعة مرتكبيها. بسبب ضعف الأدلة مثال.. كما أن عدادا من القضايا يتم الحكم فيها بالبراءة ول لفائدة الشك...
ب- الإحصائيات القضائية: وهي التي تتضمن أساسا أحكاما بالإدانة من طرف العدالة الجنائية، كما توضح الجرائم والقضايا الرائجة أمامها، وإعداد الأشخاص المحالين أمام التحقيق أو المحاكم وعدد المحكوم عليهم. كما تشمل إضافة إلى كل هذه المعطيات، عدد الشكايات والوشايات والمحاضر المنجزة لهؤلاء والتي تصل إلى علم العدالة الجنائية ومصير كل تلك القضايا.
ج- إحصائيات المؤسسات العقابية: يتم إصدار هذا النوع من الإحصائيات من طرف الإدارة العامة للسجون وكذا مختلف الدوائر التي تشرف على المؤسسات العقابية والعلاجية. وتتضمن عدد المحكوم عليهم والذين يقضون مدة عقوبتهم أو مدة التدبير الاحترازي في إحدى المؤسسات التقويمية أو العلاجية، وكذا نوع جرائمهم والمعلومات المتعلقة بظروفهم الصحية والعقلية والنفسية والاجتماعية، وكذا المعطيات الرقمية التي تهم إعداد أولئك الذين يقضون إجراءات التقويم وإعادة الإدماج في وسط اجتماعي.
المطلب الثاني: القيمة العلمية للإحصائيات الجنائية:
تكتسي الإحصائيات الجنائية أهمية قصوى في مجال تحديد كتلة الإجرام من الناحية الكمية والنوعية. إذن فما هي القيمة العلمية للإحصائيات الجنائية؟ وضرورة معرفة طريقة عمل الإحصائيات الجنائية أثناء قياس حجم الجريمة؟
أولا: أي إجرام يتم قياسه؟ يتم التمييز تقليديا بين ثالثة مستويات من الإجرام
الإجرام الحقيقي: هو مجموع الجرائم التي ارتكبت فعليا.
الإجرام الظاهر: يقصد به مجموعة الأفعال الإجرامية التي تصل إلى علم دوائر الشرطة أو تصل إلى علم الجهاز القضائي المكلف بالتحقيق والمتابعة.
الإجرام الشرعي: فهو حاصل مجموع الأحكام بالإدانة القضائية.
إن الإجرام الذي تقوم الإحصائيات الجنائية بقياسه ليس في الحقيقة الأمر كتلة الإجرام الحقيقي، أي العدد الدقيق للجريمة المرتكبة فعليا، بل تقوم فقط بقياس إما الإجرام الظاهر أو الإجرام الشرعي وذلك حسب الأحوال. ومن جهة أخرى يتم استنتاج خلاصة ثانية تنبني على الخالصة الأولى، فإذا كانت الإحصائيات الجنائية عاجزة عن قياس الإجرام الحقيقي، فهذا يعني بداهة أن الرقم الصحيح لكتلة الإجرام الفعلية سوف يظل غير معروفا على الإطلاق.
وبالتالي يوجد بين كتلة الإجرام الحقيقي ونسبة الإجرام المعروفة التي يتم قياسها بالإحصائيات الجنائية فرق هام جدا وهذا الفرق هو ما يطلق عليه علماء الإجرام تعبير(الرقم الأسود للإجرام أو الإجرام المخفي). فتعبير الرقم الأسود يعبر عن المنطقة المظلمة بين الحقيقة التي نجهلها (الإجرام الحقيقي)،والحقيقة النسبية التي نعرفها بفضل الإحصائيات الجنائية(الإجرام الظاهر- الإجرام الشرعي).
إذن كيف يمكن لنا أن نعرف معرفة علمية عدد الرقم الأسود أو بصيغة أخرى معرفة حجم الإجرام الحقيقي؟
تعتبر هذه الإشكالية من ضمن الإشكاليات الكلاسيكية التي لازمت علم الإجرام منذ بداياته الأولى، وكمحاولة لإنهائها قام عالم الإجرام البلجيكي Quetlet بوضع فرضية مفادها: أن الرقم الأسود للإجرام هو في حقيقة الأمر ثابت لا يتغير مطلقا. لكن سوف يتضح بكل سهولة أن فرضية كيلتيه هذه غير دقيقة وغير مقبولة من طرف علماء الإجرام .
فبفضل التقدم والتطور الكبير لطرق الإحصاء، والمعلومات والتكنولوجيا والمعرفة الإنسانية ككل، إضافة إلى الدراسات الواقعية الإمبريقية التي تم إنجازها في هذا المجال، يتم التوصل إلى حقيقة أن الرقم الأسود لا يمكن لا رياضيا ولا علميا أن يكون ثابتا،
وبالتالي فإن الرقم الأسود يتغير من وقت لآخر ومن دولة لأخرى. وذلك تحت تأثير عوامل مختلفة وخاصة متغيرات نشاط الشرطة والعدالة الجنائية. كما يلاحظ فروق معينة في نسبة الإجرام في الإحصائيات الجنائية بين سنة وأخرى، وتفسير ذلك أنه لا يعود قطعا إلى ارتفاع أو انخفاض في حجم الإجرام .بل يعود حقيقة إما إلى تكثيف نشاط أجهزة المراقبة والضبط الاجتماعي (كالشرطة..) أو إلى تراخيها، وها ما عبرنا عنه بمتغيرات نشاط الشرطة والعدالة، فمن يتغير هو عمل الشرطة وليس الجريمة.
ثانيا: التقييم العلمي للإجرام الظاهر والإجرام الشرعي: إن الإحصائيات الجنائية لا يمكنها مطلقا أن تدلنا على حجم الإجرام الفعلي أو الرقم الأسود، وكل ما يمكن معرفته إحصائيا بخصوص الظاهرة الإجرامية، ليس إلا ذلك الجزء الغير الثابت والذي يطلق عليه: الإجرام الشرعي والإجرام الظاهر. وبما أن هناك فرق شاسع بين ما يتم التعبير عنه إحصائيا في إطار الإجرام الشرعي من جهة، والإجرام الظاهر من جهة أخرى. مما يجب أن نتساءل عن أيهما يعبر بدقة عن حجم الإجرام الأقرب إلى الإجرام الحقيقي، وبالتالي معرفة أيهما سنأخذ به للإنطلاق في تفسير الظاهرة الإجرامية وتقدير خطورتها الإجرامية وذلك على أسس علمية متينة؟
1-الإجرام الفعلي والإجرام الظاهر: لقياس الظاهرة الإجرامية، يقوم علماء الإجرام بالتمييز إحصائيا بين ثلاثة مستويات للإحصاء الجنائي: الشرطة-المحاكم- المؤسسات العقابية.
وإذا كان بالفعل الإجرام الفعلي هو التعبير العلمي والدقيق عن الكتلة الإجرامية داخل مجتمع ما، فإنه من البديهي أيضا أن الإحصائيات الجنائية، لن يكون بمستطاعها مطلقا قياس الإجرام الفعلي لأنه من المستحيل تقدير مداه بصفة دقيقة. وبالنظر إلى الصعوبات العلمية والعملية والتي يتعذر تجاوزها لقياس حجم الإجرام الفعلي، يلجأ الباحثون إلى إحصائيات الشرطة،(الإجرام الظاهر). وحتى على مستوى إحصائيات الإجرام الظاهر، فإن علماء الإجرام ينتابهم الشك في كون أن هذه الإحصائيات تشمل جميع الجرائم التي يتم ارتكابها. وقد ساد اعتقاد لدى علماء الإجرام مفاده عدم إمكانية اعتماد هذه الإحصائيات بطريقة مطلقة.
إلا كمؤشر نسبي، وذلك بسبب عجزها الواضح عن قياس كتلة الظاهرة الإجرامية. بل يلاحظ أن هذه القدرة الإحصائية ذاتها تتناقص كلما تم الانتقال في إطار التحقيقات الجنائية من مرحلة مسطرية إلى مرحلة الحقة، وصولا إلى آخر مسلسل المتابعة الجنائية، وذلك من وقت ارتكاب الجريمة، ووصولها إلى علم الشرطة، هذا إن وصلت أصال، ثم أخيرا محاكمة المتهم. ولهذا السبب تعتبر إحصائيات الشرطة (الإجرام الظاهر)،أكثر دقة تعبيريا من الوجهة الإحصائية من إحصائيات النيابة العامة أو المحاكم التي تتولى إصدار أحكام الإدانة في هذه القضايا(الإجرام الشرعي).
وأسباب التمييز نذكر من بينها: *أن الإحصاء القضائي ليس إلا جزءا ضئيلا من إحصائيات الشرطة؛ *ليس كل الجرائم التي تصل إلى علم الشرطة، ويبدأ فيها التحقيق، ليس من الضروري أن تنتهي آليا بالإدانة القضائية، هذا إذا أحيلت أصلا للمحكمة؛ *كما أن هناك أعداد كبيرة من المتهمين الذين يتم إلقاء القبض عليهم من طرف الشرطة وبالتالي إدراجهم ضمن إحصائيات الشرطة، ويعمد القضاء إلى تبرئتهم لسبب من الأسباب، كانعدام الأدلة، أو البراءة لفائدة الشك، كما تلجأ النيابة العامة في كثير من الأحيان إلى اتخاذ قرار بحفظ القضية وعدم متابعة المتهم، إما بسبب عدم معرفة هوية مرتكب الجريمة أو لتفاهة الجريمة نفسها...بالإضافة إلى أسباب قانونية أخرى كتنازل الضحية عن حقه في متابعة المتهم، أو وفاة المتهم... وحتى لو وصلت القضية إلى المحكمة فليس من الضروري أن تنتهي بالإدانة، مما يعني أن إحصائيات الإجرام الظاهر أقل عددا من زاوية الأرقام من إحصائيات الإجرام الظاهر(الشرطة).
واليوم فإن علماء الإجرام يتفقون على حقيقة، يتم إثباتها بالاستناد إلى المعطيات الرقمية للإحصائيات الجنائية نفسها، وهي أنه منذ تاريخ ارتكاب الجريمة وصولا إلى إحالة المتهم على العدالة الجنائية قصد محاكمته، أي كلما تعددت إجراءات المتابعة والأجهزة المكلفة بالقيام بذلك، كلما قلت حظوظ إصدار أحكام الإدانة، وبالتالي إدراجها ضمن إحصائيات القضاء. ولا يمكن تفسير واقع الإحصائيات الجنائية هذا، إلا إذا استحضرنا طبيعة عمل أجهزة مكافحة الجريمة والتي تتم على مستويات متعددة:
*1-على مستوى الشرطة:
يلاحظ على صعيد هذا المستوى الأول أن هناك قضايا عديدة تصل إلى علم الشرطة، إما تلقائيا، أو عن طريق ضحايا الجرائم بأنفسهم أو عن طريق التبليغ والوشاية، ويتم التعرف على هوية مرتكب الجريمة، ولكن مع ذلك لا يتم إلقاء القبض عليه، إما بسبب اختفائه أو افرازه. كما أن هناك من جهة أخرى بعض الجرائم التي تصل إلى علم الشرطة، ولا يتم إلقاء القبض على مرتكبها وذلك لسبب بسيط هو أن هوية مرتكب الجريمة غير معروف وبالتالي يتم تسجيلها ضد مجهول.
*2-على مستوى النيابة العامة:
من خلال المعطيات الإحصائية للنيابة العامة، يمكن ملاحظة أن هذه الأخيرة لا تقوم بتحريك الدعوى العمومية، وبالتالي متابعة المتهم جنائيا إلا بالنسبة لعدد أقل من القضايا التي وصلت إلى علم الشرطة، وهي التي يتم تضمينها في الإحصائيات. وبناءا عليه، فإن الانتقال من المستوى الأول(الشرطة)،إلى المستوى الثاني(النيابة العامة)،يعني إسقاط أعداد كبرى من الجرائم من إحصائيات النيابة العامة. والتي سبق وأن تضمنتها إحصائيات الشرطة. فهل والحالة هذه يمكن أن تكون للإحصائيات الجنائية مصداقية علمية، وتمتلك إمكانية التعبير إحصائيا عن واقع الكتلة الإجرامية الحقيقية في الزمان والمكان؟ في الحقيقة كلما انتقلنا من مرحلة لأخرى وذلك في إطار التحقيق الجنائي إلا ونسجل إسقاط عدد كبير من الجرائم من خانة المتابعة القضائية، وهذا يعني بكل وضوح أن جهاز العدالة الجنائية نفسه، له تأثير مباشر على مضمون المعطيات الإحصائية وضعف دقتها، وهي بذلك تساهم في إفقادها جزءا من مصداقيتها العلمية وكذا أية إمكانية علمية لإعتمادها كمؤشر على الوضع الحقيقي للإجرام داخل مجتمع معين.
وهذا يعني بداهة أن أية دراسة علمية للظاهرة الإجرامية تعتمد كقاعدة هذه المعطيات الإحصائية، لن تؤدي إلى الوصف الدقيق لكتلة الجريمة داخل المجتمع إلى نتائج علمية يمكن الاطمئنان إليها. وهذا الوضع يؤدي إلى التساؤل حول ما إذا كانت بالفعل هذه المعطيات الرقمية التي تتولى وصف خصائص الظاهرة الإجرامية، وهي نفسها التي تقع في نطاق المجتمع، والتي يعبر عنها بالإجرام الفعلي، أم أن هناك هوة واسعة بينهما؟ إن أقل ما يمكن أن يقال، هو أنه لا يجوز مطلقا أن توصف النتائج التي يتم التوصل إليها على قاعدة هذه المعطيات الإحصائية القاصرة وبكل تأكيد بالنتائج العلمية، الأمر الذي يستوجب من الباحثين الذين يعتمدون على إحصائيات الشرطة توخي الحيطة والحذر، خاصة فيما يتعلق بتعميم النتائج المتوصل إليها على الظاهرة الإجرامية ككل.
ذلك أن واقعة ارتفاع الجريمة في إطار هذه الإحصائيات لا يعني حقيقة ارتفاع نسبة الجريمة داخل المجتمع، بل يعزى إلى تغيير في سياسة وأنشطة جهاز الشرطة الذي يعمد في فترات معينة إلى تكثيف حملاته لإعتقال المجرمين، وهي سياسة دورية دائما ما يلجأ جهاز الشرطة إلى نهجها، وبالتالي يتم تضمينها في إحصائيات الشرطة، وهذا المعطى من شأنه إيهام الباحث بأن هناك ارتفاعا مفاجأ لمعدلات ارتكاب الجريمة، علما أنها لا تعكس حقا ما قيل، بقد ما تعكس حجم وطبيعة السياسة الجنائية التي تعمد الشرطة إلى نهجها في فترات دورية لمواجهة الجريمة. وهي بذلك (الإحصائيات) لا تقيس واقع الجريمة، بقدر ما تعكس نشاط الشرطة نفسه.
ويتفق جميع الباحثون على أنه لا مجال لإنتظار الشيء الكثير من الإحصائيات الجنائية أكثر مما تقدمه راهنا، على اعتبار المعطيات الإحصائية التي تصدرها الشرطة قاصرة، وبالتالي لا تعكس في واقع الأمر سوى حجم نشاط الشرطة في مجال مكافحة الجريمة.
إن الأبحاث العلمية التي تم إجراؤها بخصوص إحصائيات الشرطة أدت في نهاية المطاف إلى صياغة فرضيتين: النظرية الأولى: نظرية الإحالة: تمت صياغة هذه النظرية ووضع أساسها بالولايات المتحدة الأمريكية من طرف الفقيه sellin بالأساس، فلكي يتم تضمين جريمة ما ضمن المعطيات الإحصائية للشرطة طبقا لهذه النظرية، فإنه لا بد وأن تستجيب لأحد المعيارين التاليين، وعم الاستجابة هذه يعني عدم إدراجها ضمن هذه الإحصائيات.
1-القابلية للمشاهدة: ويقصد بهذا المعيار قابلية الفعل الإجرامي للمشاهدة بسهولة وهذا المعيار يختلف باتفاق علماء الإجرام حسب طبيعة الجريمة المرتكبة إضافة إلى ظروف وأسلوب ارتكابها. فهناك جرائم بحسب طبيعتها، توفر على قابلية المشاهدة وبكل سهولة كجرائم القتل والاتجار في المخدرات والتزوير في الوثائق الرسمية... مقابل ذلك هناك جرائم لا تتوفر على إمكانية المشاهدة، لأنها تعتمد على عامل التستر والكتمان، وطرفي الجريمة لها مصالح مشتركة ولا يمكن تصور قيام أحدهما بالتبليغ عنها، كجرائم الإجهاض، وجرائم الياقات البيضاء...إلى غيره من الجرائم التي يتم ارتكابها في الخفاء. ففي كل الحالات التي يتم فيها ارتكاب الجريمة في أماكن مكتظة وآهلة بالسكان تكون القابلية للمشاهدة وحظوظ وصولها إلى علم الشرطة أكبر، وعلى العكس من ذلك في كل الحالات التي يتم فيها ارتكاب الجريمة في أماكن نائية ومنعزلة، فإن حظوظ المشاهدة وبالتالي تبليغها تقل بدرجة كبيرة.
وبالتالي فإن أغلب الجرائم التي تصل إلى علم الشرطة وتباشر تبعا لذلك التحقيق في ملابسات ارتكابها لا تصل إلا استنادا على التبليغ عنها، وليس لإكتشافها من طرف الشرطة.
2-رفع الواقعة الإجرامية إلى علم العدالة الجنائية: رفع الواقعة الإجرامية إلى علم العدالة الجنائية أي التبليغ والشكاية، ويقصد بها الفقيه Sellin معرفة السرعة التي بمقتضاها يتم إبلاغ الشرطة بوقوع الجريمة من طرف الضحية طبعا.
والسبب في وضع هذا المعيار كشرط لتضمين الجريمة ضمن إحصائيات الشرطة يكمن بالأساس في اتفاق علماء الإجرام على أن جهاز العدالة الجنائية لا يتحرك حقيقة، إلا بعد إبلاغه في أغلب الأحيان من طرف ضحايا الجرائم بوقوعها، وإن الإبلاغ عن وقوع الجريمة من طرف الضحية يتطلب توافر شرطين اثنين:
ففيما يتعلق بظروف الضحية وكونها هي التي تقوم بإبلاغ الشرطة بوقوع الجريمة يقود إلى ضرورة التمييز بين نوعين من الجرائم :
فهناك جرائم تخلف ضحايا وهذه الضحايا هي التي تتولى إبلاغ الشرطة علما أن هناك جرائم لا تقوم الضحايا بإثارة ورفع القضية إلى العدالة الجنائية لسبب بسيط، إما لأن التبليغ سوف يجر العار على الضحية، كضحايا الاغتصاب، وإما لأن الضحية نفسها تعتبر طرفا مستفيدا من الجريمة، كجريمة الإجهاض، والاتجار في المخدرات ....
ومن جهة أخرى هناك جرائم لا تخلف أبدا ضحايا أو تخلف ضحايا لكن بطريقة غير مباشرة خلافا للتصور التقليدي للقانون الجنائي ويطلق عليها جرائم بدون ضحايا، وهي أكثر انتشارا مما يعتقد في الواقع كجرائم الياقات البيضاء، تبييض رؤوس الأموال المتحصلة من المخدرات، والتهرب الضريبي ...
وبالنسبة للشرط الثاني المتعلق بالوسط الاجتماعي للضحية فإنه يلاحظ غالبا في المجتمعات المحافظة والمتخلفة وجود مسالك عديدة لإنتاج عملية الضبط الاجتماعين وتقوم عمليا بنفس وظائف العدالة الجنائية، وهذا يعني عدم وصول عدد مهم من الجرائم إلى علم الضابطة القضائية فعلى سبيل المثال : فجريمة السرقة في المجال القروي يتم تسويتها عن طريق أساليب الضبط الجماعي، بطريقة سلمية مع أداء تعويضات عينية. كما يلاحظ وجود أجهزة تقوم بفض النزاعات قبل تدخل الشرطة، كجرائم السرقة التي يتم اقترافها داخل المساحات التجارية الكبرى التي تتوفر على شرطة خاصة.
النظرية الثانية: النظام القانوني للجرائم: وضعت أسس هذه النظرية الأستاذة Barberger حيث ركزت على النظام القانوني للجريمة أكثر من الاعتماد على خصائصها المادية. وبناءا عليه يمكن أن نقيم تميزا كلاسيكيا بين الجرائم الخاضعة للقانون الجنائي، وهي التي تشكل حجر الزاوية في الإحصائيات الجنائية للشرطة من زاوية العدد، مقارنة مع الجرائم التي تخضع لأنظمة جنائية خاصة، جرائم اقتصادية ، ضريبية، جرائم متعلقة بالبيئة...
وهذا النوع من الجرائم عادة ما يتم إيجاد تسوية لها على صعيد الإدارة المعنية بالمخافة، ولا تصل إلى علم الشرطة والمحاكم، وبالتالي إمكانية تضمينها في الإحصائيات الجنائية إلا بطريقة استثنائية. وبدون شك، لن يكون بإمكاننا التوصل إلى حقيقة الإحصائيات الجنائية ومعرفة ما هو طبيعة الإجرام الذي تتولى قياسه، إلا إذا قمنا بكل تأكيد بعملية المزاوجة بين النظريتين المشار إليهما أعاله.
2-الإجرام الظاهر والإجرام الشرعي: إن قياس كتلة الظاهرة الإجرامية قصد معرفة خصائصها حركيتها و أنماط المجرمين يتم أساسا بالاعتماد الشبه الكلي على الإحصائيات الجنائية التي إما قد تكون صادرة عن الشرطة ( الإجرام الظاهر) و إما عن المحاكم (الإجرام الشرعي ). ولقد لاحظنا أن هناك فروقا على مستوى أعداد الجرائم التي يتضمنها كلا الإحصائيين، ويعود السبب ذلك إلى أن الجرائم التي تم إحصائها من طرف الشرطة لا يتم في غالب الأحيان تضمينها في إحصائيات القضاء. وهذا ما دفع بعلماء الإجرام إلى اعتبار الإجرام الظاهر أفضل وسيلة لقياس الإجرام أكثر من الإجرام الشرعي.
والفرق بين الإجرام الظاهر والإجرام الشرعي يطلق عليه في أدبيات علم الإجرام الرقم الرمادي ويتم التعبير عن ذلك رياضيا بالمعادلة التالية: الإجرام الظاهر-الإجرام الشرعي=الرقم الرمادي وفي النهاية يتفق الجميع على أن الإحصائيات الجنائية ليس بإمكانها الاعتماد عليها كمؤشر إحصائي دقيق للدلالة على الحجم الحقيقي للظاهرة الإجرامية على اعتبار أن هناك عددا هائلا من الجرائم يظل خارج حدود إدراكنا ومعرفتنا، ولا يصل بالتالي لا إلى علم الشرطة ولا إلى علم العدالة الجنائية، وهذا العدد الذي نجهله حتى على وجه التقريب يطلق عليه الرقم الأسود.
وقد مثل الرقم الأسود الذي يمثل الحقيقة الفعلية للكتلة الإجرامية داخل بلد ما لغزا استعصى على علماء الإجرام فك ألغازه، ومن ثم وبسبب غموضه فتح الباب لنوع من المضاربة الرياضية، والمزايدات التي لا تستند على أساس علمي صحيح، وهناك من قال أنه لتحديد حقيقة الرقم الأسود أنه يتعين علينا ضرب حاصل رقم الإجرام الظاهر في خمسة أضعاف، ومن قائل أنه يمثل ضعف الإجرام الظاهر.
ولكن سوف يبدو أن كل هذه الفرضيات ليست إلا مجرد تأملات أو تخمينات لا أساس علمي لها مطلقا. وبسبب هوس والرغبة الجامحة لعلماء الإجرام وإصرارهم على معرفة حقيقة الرقم الأسود، قام بعض علماء الإجرام بدراسات ميدانية من خلال دراسة عينات تمثيلية، واكتشفوا إلى أي حد يبدو الرقم الأسود رقما مهولا ومن الصعب حتى تصور حجمه وأبعاده. فقد اكتشفوا أن عددا لا بأس به من الأشخاص الذين يشكلون العينة قد أجرموا في صباهم ولم يتم إلقاء القبض عليهم، وهناك من ارتكب عشرات المخالفات لنصوص القانون الجنائي، ومع ذلك لم يسبق له أن كان موضوع متابعة جنائية. وبالتالي ثار جدل حول الجدوى والقيمة العلمية للإحصائيات الجنائية. وإلى أي مدى يمكن اعتبار الإحصائيات الجنائية أداة أو وسيلة بمقدورها مدنا ولو بصورة نسبية وتكون أقرب إلى الحقيقة للظاهرة الإجرامية وبالتالي ما هي حقيقة الرقم الأسود؟ وما هي الأسباب التي تدفع بالناس وضحايا الجرائم إلى التزام قانون الصمت وعدم التبليغ عنها؟
3-بعض المظاهر الأخرى لقصور الإحصائيات الجنائية: إذا كانت حقا الإحصائيات الجنائية عاجزة عن قياس الإجرام الحقيقي فإنها بالمقابل وبمناسبة قياسها للظاهرة الإجرامية، لا تقيس إلا نسبة ضئيلة من هذه الأخيرة والتي لا يمكن اعتبارها، إلا كجزء من الحقيقة العلمية وليست كل الحقيقة .
وبناءا عليه، يلاحظ أن الإحصائيات يوجه لها انتقاد هام يتمثل في عدم الدقة، وأوجه التحريف الذي تكون موضوعا له.
- عدم دقة الإحصائيات الجنائية: يمكن تسجيل على الصعيد العملي أوجه عديدة لمظاهر انعدام الدقة، ويمكن إجمالها باختصار في ثالثة عوامل رئيسية. فهناك من جهة الأخطاء التي تشوب المعطيات الرقمية للإحصائيات الجنائية، وهي قطعا أخطاء غير إدارية، وتبدو بشكل واضح على صعيد الأخطاء في الحساب، أو أخطاء مطبعية أثناء طبع وإصدار الإحصائيات الجنائية هذه.
-أوجه تحريف الإحصائيات الجنائية: وهناك من جهة ثانية، التزوير والأخطاء المتعمدة في البيانات الإحصائية. ويمكن تفسير هذه النوايا غير الحسنة التي تتولى عملية التزوير هذه إلى إعمال حجم الاهتمام الذي تكتسيه الإحصائيات الجنائية، خاصة الأبعاد السياسية، للحكم على فشل أو نجاح سياسة حكومية معينة، مما ينتج عنه تقزيم وتزوير في حجم الإحصائيات الجنائية لإيهام الرأي العام بنجاح سياسة محاربة الجريمة، وسلامة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية. كما أن الإحصائيات الجنائية تعاني من عيوب إضافية مما يحتاج معه الباحث إلى توخي الحذر الشديد عند استخلاص النتائج ويمكن إرجاع ذلك إلى عاملين رئيسيين :
الأول: ويتعلق بعدم دقة تلك الإحصائيات من حيث الزمان، ذلك أنه يلاحظ أن أغلب أحكام الإدانة القضائية عن الجرائم المرتكبة والتي يتم تضمينها في الإحصائيات في سنة معينة. تكون في الحقيقة صادرة ضد جرائم ارتكبت سنوات قبل ذلك، بل حتى ولو اعتمدنا على تاريخ ضبط المجرم وإلقاء القبض عليه، فإن هذا التاريخ لا يدل بشكل قاطع على التاريخ الحقيقي لإرتكابها، الأمر الذي يؤدي إلى نقل الرقم الإحصائي من شهر إلى شهر أو من سنة إلى سنة أخرى، وهو ما يعني دراسة حركية الجريمة في الزمان على ضوء المعطيات الإحصائية هذه أمرا محفوفا بالمحاذير والنتائج غير سليمة بالمرة.
الثاني: ويتعلق بعدم سالمة ودقة الإحصائيات من حيث المكان. ذلك أن مكان ضبط الجريمة والذي على ضوئه يتم تضمينه في الإحصائيات الجنائية على أنه كذلك ليس صحيحا على الإطلاق، فهو لا يمثل بالضرورة مكان ارتكابها، فقد يتم ارتكاب الجريمة في بقعة جغرافية معينة. وتضبط في مكان آخر غير الذي تم فيه تنفيذ الفعل الإجرامي. وهذا الوضع كفيل بمفرده بإبراز نتائج مضللة عن معدلات الجريمة في الإقليم الذي ارتكبت فيه الجريمة بالفعل والسكن الذي ضبطت فيه.
يتبع....
ظرا لطول الموضوع و للإلمام بكافة الجوانب المتعلقة بمادة علم الإجرام كان لا بد لنا من تقسيم الموضوع الى أجزاء
أو يمكنكم تحميل الملخص كاملا من هنا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق